حملة "خليها تعفن"- مقاطعة شعبية لكبح أسعار الأسماك في مصر

المؤلف: د. عمرو هاشم ربيع11.01.2025
حملة "خليها تعفن"- مقاطعة شعبية لكبح أسعار الأسماك في مصر

تحت راية شعار "خليها تعفن"، الذي انطلق في النصف الثاني من شهر أبريل، انطلقت في أرجاء جمهورية مصر العربية حملة شعبية لمقاطعة شراء الأسماك، استهلت هذه الحركة الفعالة من مدينة بورسعيد الساحلية، التي تُعدّ من بين المدن الأكثر استهلاكًا للأسماك على مستوى البلاد، حيث يحرص الفرد الواحد على تناول وجبة سمكية بمعدل ثلاث مرات أسبوعيًا.

والجدير بالذكر، أن حملة المقاطعة قد حققت نتائج مذهلة وسريعة، تجسدت في عدة مؤشرات واضحة:

أولًا: شهدت الأسواق تراجعًا ملحوظًا في حركة البيع والشراء، وذلك نتيجة لإحجام جموع المستهلكين عن التوجه إلى حلقات وأسواق السمك، تجاوبًا مع دعوات المقاطعة التي لقيت صدى واسعًا وتفاعلًا إيجابيًا من قبل المواطنين.

ثانيًا: انخفضت أسعار الأسماك بشكل ملحوظ، وخاصة الأنواع الشعبية كالبلطي والبوري، بنسبة تجاوزت الـ 30%، وقد وصلت هذه النسبة في بعض الأحيان إلى 50%، وفقًا لما أورده العديد من التجار والمستهلكين والمنتجين في تصريحاتهم لوسائل الإعلام المختلفة.

ثالثًا: تراجع حجم المعروض من الأسماك في الأسواق بنسب وصلت إلى 80%، وذلك نتيجة لامتناع أصحاب المزارع السمكية والصيادين عن تزويد الأسواق بالأسماك، بسبب انخفاض الأسعار وتراجع الإقبال على الشراء.

مقاطعة شعبية

إن النتائج التي أسفرت عنها دعوات المقاطعة في سوق تجارة الأسماك تجاوزت كل التوقعات، حيث أن المبادرة بالمقاطعة كانت ذات طابع شعبي بحت، وذات مدة قصيرة، ولم يكن للحكومة أي دور أو تدخل فيها.

فالحكومة اكتفت بمراقبة الوضع عن كثب دون أي تدخل لمواجهة المحتكرين. وقد اتخذت معظم إجراءات الرقابة والمتابعة التي قامت بها الحكومة تجاه هؤلاء المحتكرين في الأشهر القليلة الماضية شكلًا إعلاميًا ودعائيًا واضحًا، تمثل في القبض على تاجر أو مسؤول ما، وهو أمر لا يتناسب من حيث الحجم والكيف مع جسامة مشكلة الاحتكار المتفشية في مصر، فضلًا عن أن الحالات المضبوطة لم يكن لها تأثير ملموس نظرًا لقلة عددها ومحدودية المضبوطات ونوع السلع المضبوطة، على مواجهة التضخم الهائل الذي تجاوز 35% في أسعار السلع والخدمات، والذي تجاوز فيه نصيب الغذاء وحده نسبة الـ 60%.

وهكذا، كشفت حملة المقاطعة الحالية وتداعياتها أن السلوك الشعبي كان له تأثير بالغ على حركة تجارة الأسماك، وبرهن ذلك ليس فقط على عجز الحكومة عن معالجة أحد أهم الملفات الاجتماعية، بل والأهم أنه أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن هناك جشعًا حقيقيًا من قبل التجار والمنتجين، وإلا لما أقدموا على خفض الأسعار بتلك السرعة.

صحيح أن منتجي الأسماك يتحملون العديد من التكاليف، سواء كانت تتعلق بشراء الزريعة السمكية أو توظيف العمالة ذات الأجور المرتفعة أو أسعار الأعلاف الباهظة. ولكن مما لا شك فيه أن توافر العملة الأجنبية في الآونة الأخيرة، وتحرك الحكومة لتسهيل وصول المستوردين إلى الموانئ لتسلم شحنات الاستيراد المختلفة بعد توفير الدولار، قد أدى إلى خفض أسعار العديد من السلع، وعلى رأسها أسعار الأعلاف.

ومن بين الأمور التي أكدت أن حملة المقاطعة قد آتت أُكلها، هو انتقالها السريع كالنار في الهشيم إلى محافظات مصر الأخرى، حيث بدأت أسواق كفر الشيخ، وهي المحافظة التي تنتج 40% من الأسماك في مصر، وكذلك محافظتي الإسكندرية والبحيرة وغيرها من محافظات الوجه البحري، تتأثر بالمقاطعة بشكل ملحوظ، بل إن القاهرة، التي تُعدّ المصدر الرئيسي لحركة التجارة والاستهلاك نظرًا لارتفاع الكثافة السكانية بها (نحو عُشر عدد السكان، ويقدر بـ 10.3 ملايين نسمة وفقًا لبيانات جهاز الإحصاء في ديسمبر 2023)، أصبحت متأثرة بالحملة وتزداد تأثرًا بها يومًا بعد يوم.

"تعطيش السوق"

من بين التحديات التي قد تواجه حملة المقاطعة، التهديد الذي يلوح به ملاك المزارع السمكية بخفض التوريد لتجار الأسماك، أو ما يطلق عليه التجار "تعطيش السوق". وتكمن خطورة هذا التهديد في كون تلك المزارع تمد البلاد بنحو 90% من الإنتاج المقدر بـ 2 مليون طن سنويًا، ويبلغ عدد هذه المزارع حوالي 7 آلاف مزرعة، تشغل مساحة قدرها 320 ألف فدان، ويعمل بها ما يقرب من نصف مليون عامل.

لكن على ما يبدو أن هذا التهديد مؤقت وقصير الأجل، بمعنى أنه قد يستمر لعدة أسابيع، ثم سرعان ما يدرك أصحاب المزارع أن أسماكهم قد كبرت وتجاوزت الحجم المناسب للبيع، ولم يعد لديهم القدرة على منع التوريد، وكذلك عدم القدرة على إطعامها لأجل غير مسمى، لأن ذلك سيزيد من تكاليف الإنتاج عليهم، ومن باب أولى، ليس لديهم القدرة على وقف النشاط بعد انتهاء الدورة السمكية الحالية.

ويرى البعض أن قدوم موسم "شم النسيم"، وهو عيد مصري فرعوني قديم يشتهر بتناول الأسماك المملحة، قد يضعف من تأثير المقاطعة، ولكن حتى هذا الأمر يبدو أنه يقتصر على يوم واحد في العام، وعلى تناول أنواع محددة من الأسماك، وهي الأسماك المملحة كالفسيخ والسردين المملح، وبعض هذه الأسماك يتم استيرادها كالرنجة. لذلك، فمن المرجح أن تنجح الحملة في ردع تجار ومنتجي الأسماك حتى بعد انتهاء يوم شم النسيم.

ومن بين الأمور التي يمكن أن تعزز المقاطعة في الأيام القادمة، وتؤدي إلى المزيد من الانخفاض في أسعار الأسماك، هو دخول بحيرة "البردويل" بشمال سيناء على خط الإنتاج السمكي. فمنذ 27 أبريل الماضي، بدأ موسم الصيد في تلك البحيرة الغنية بالأسماك، وذلك بعد فترة توقف دامت 4 أشهر، وهي الفترة السنوية التي يُحظر فيها الصيد في البحيرة، والتي تبدأ من نهاية ديسمبر وحتى نهاية أبريل من كل عام. ومن المتوقع أن يؤدي بدء الصيد في "البردويل" إلى زيادة المعروض من الأسماك، وإحباط أي محاولة لتعطيش السوق.

وعلى أي حال، فقد أثبتت الحملة نجاحها الباهر، وأطلقت تحذيرًا واضحًا بإمكانية تكرارها بالنسبة للحوم، خاصة أن البلاد على أعتاب موسم استغلال آخر بعد أقل من شهرين، وهو موسم لحوم الأضاحي، حيث بدأ البعض بالفعل في الترويج لحملة "خليها تدوّد" لمقاطعة لحوم عيد الأضحى.

وكل ما سبق يبرهن على وجود وعي شعبي متزايد، حيث لعبت شبكات التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في التعريف بالحملة وتداعياتها، حتى أن وسائل الإعلام التقليدية (الصحافة والتلفزيون) أصبحت تلهث وراء شبكات التواصل؛ لمتابعة تطورات الحملة.

وعلى الرغم من أن كل هذه الأمور تشير إلى ضعف أداء الحكومة بسبب تقاعسها عن مواجهة تجار ومنتجي المواد الغذائية، في مقابل نجاح الضغوط الشعبية، إلا أن الحكومة يمكنها أن تستكمل ما بدأه المجتمع المدني من ضغوط للحد من التضخم في أسعار الغذاء.

شراكة المواطن في الرقابة

ومن الجدير بالذكر أن العديد من الاقتصاديين والخبراء، بمن فيهم وزير التموين الأسبق جودة عبد الخالق، القيادي بحزب "التجمع" وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني، يعزون 30% فقط من التضخم إلى أسباب نقدية ومالية، بينما يعود السبب الرئيسي للتضخم والمقدر بنحو 70% إلى الاحتكارات التي تعجز الدولة عن مواجهتها أو تهملها. وعلى الرغم من أن البعض يتحجج بعدم تدخل الحكومة بحجة أن الأمور متروكة لقوانين العرض والطلب، إلا أنه من واجب الحكومة، وفي ظل الحماية الاجتماعية، أن تتدخل لحماية الطبقتين الدنيا والمتوسطة من موجة الغلاء المتصاعدة.

ومن بين الأمور الهامة التي يجب على الحكومة القيام بها هو تفعيل وتطبيق وثيقة ملكية الدولة بحزم وقوة، والتصدي للفساد والمفسدين. والتفاعل الإيجابي مع المواطنين الذين يسعون جاهدين لمحاربة الغلاء، من خلال تشجيع الإبلاغ عن الفساد والجشع، والإسراع في سن قانون لحماية المبلغين، والانتقال من مجرد إصدار القوانين إلى تطبيقها على أرض الواقع، وذلك من خلال تبني سياسات تهدف إلى إشراك المواطنين في الرقابة على المنتج، وتحديد السعر المناسب له، وضمان صلاحيته وجودته، ومعرفة مصدره، وتقديم شهادة ضمان، وتسهيل الحصول على فواتير البيع، وتسريع وتيرة رفع الدعاوى القضائية التموينية والفصل فيها، وضمان أن تكون هذه الدعاوى مجانية، ومنح الحق في التعويض لجبر الضرر الناتج عن استخدام المنتج التالف.

ومن بين أبرز الأمور التي تثير استياء المستهلكين والتي يجب على الحكومة التدخل السريع للرقابة عليها، هو تعدد أسعار السلعة الواحدة، وهو ما يختلف باختلاف المنطقة أو المكان.

وكل ذلك يتطلب المتابعة الأمنية الدقيقة، وكذلك محاسبة المقصرين من قبل الأجهزة السياسية، وعلى رأسها مجلس النواب.

ومن بين الإجراءات الهامة التي يمكن أن تدعم المقاطعة، قيام الحكومة بتعديل القوانين التي تحارب الاحتكار وتدعم المنافسة. ويشير العديد من الخبراء إلى أهمية تشديد العقوبات التموينية، من خلال مضاعفة الغرامات وزيادة سنوات الحبس وإغلاق المنشآت التجارية المخالفة، كما أنه من الضروري للغاية تحويل دعاوى الاحتكار إلى جرائم جنائية وليست مجرد قضايا جنح، بمعنى آخر أن يفقد من تثبت إدانته في قضايا الاحتكار حقوقه المدنية والسياسية نتيجة لأعمال الاحتكار والغلاء التي ارتكبها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة